رحلة أبو عمار.. من طفولة القدس إلى الشباب في القاهرة.. وحياة العزلة في المقاطعة (6)
أبو إياد تنبأ بكارثة أيلول الأسود بسبب سياسات حبش وحواتمة وعرفات هرب من الأردن متنكرا في زي كويتي بعد لجوئه للسفارة المصرية
محمد بغدادي *
أحقاً أن هذا الموت حق وأن البحر يطويه الأصيل وأن مساحة الأشياء صارت حدود الروح مذ غاب الدليل صديقي، يا صديقي، يا صديقي أتعلم أن صمتك مستحيل
*** يبدو يا درويش أن الرحلة قاربت على النهاية.. وعودة أبو عمار من غيبوبته أصبحت مستعصية.. ولأن محمود دوريش أرخ بشعره لكل مراحل الثورة الفلسطينية.. إلا هذه اللحظة التي لم تكتب بعد! وهي حالة «عرفات» الآن في غيبوبته التي تتساوى مع الرحيل. ورحيله الذي سيؤدي للغياب. فلم أجد يا درويش.. إلا رثاءك للمناضل البطل الشهيد «ماجد أبو شرار» أحد القيادات التاريخية لحركة فتح لأضعه في سرادق العزاء المؤقت. وهكذا يذهب عرفات ويغيب الدليل.
ولا أحد يعلم ماذا تخبئ الأيام لما تبقى من منظمة التحرير. وما تبقى من قيادات فتح التاريخيين الذين استشهد معظمهم ولم يعد منهم على قيد الحياه سوى محمود عباس (أبو مازن)، وفاروق قدومي (أبو اللطف)، وأحمد قريع (أبو العلاء).
وهكذا كما بدأت فتح بنفر قليل (يعد على أصابع اليد الواحدة). يبدو أنها ستنتهي كذلك وليس فيها من القيادات القديمة سوى نفر قليل يعد على أصابع اليد الواحدة أيضاً.
كنا قد وصلنا في حديثنا عن أبو عمار في حلقة الأمس إلى زمن الهزيمة ونكسة 1967. ونعود لحديثنا عن أبو عمار الذي كان في دمشق هو ومعظم قيادات «فتح» عشية الخامس من يونيو (حزيران) 1967 في قاعدة عسكرية قدمتها السلطات السورية لأبو عمار ورفاقه تسمى (قاعدة الهامة) وكان أبو عمار يشرف بنفسه على تدريب ما يقرب من 400 فدائي. وما أن نشبت الحرب حتى تسرب معظمهم خلف خطوط العدو بقيادة ياسر عرفات نفسه حيث كان يحاول اعاقة القوات الاسرائيلية. وخلال يومين من بداية العمليات الحربية تكشفت للجميع الحقيقة المفجعة فقد انهزمت الجيوش العربية واحتلت القوات الاسرائيلية سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية، وضاع آخر أمل كانت تنشده الأمة العربية لاستعادة الأرض الفلسطينية السليبة بل ضاعت أيضاً الضفة الغربية وغزة. ولم تستطع الجيوش العربية أن تصد الجيش الاسرائيلي الصغير. عاد ياسر عرفات ورفاقه مسرعين من جبهة القتال إلى دمشق والاحباط يخيم على الجميع، فإذا بعبد الناصر يعلن عبر شاشات التلفزيون عن تنحيه ومسؤوليته عن الهزيمة. فلم تعد الهزيمة عسكرية فقط. بل وسياسية أيضاً. وكان سقوط عبد الناصر يعني بالنسبة لياسر عرفات وقيادات فتح نهاية كل أمل. فالفرح العارم الذي تلقى به الاسرائيليون استقالة عبد الناصر اقنع حركة فتح وقادتها بأن تأييد عبد الناصر في محنته سيعد رمزاً لرفض الأمر الواقع وتحدياً للهزيمة والاصرار على المقاومة. وقامت الجماهير العربية في مصر والعواصم العربية باعادة عبد الناصر للحكم وعدوله عن قرار الاستقالة. وما أن سحب عبد الناصر استقالته حتى دعا ياسر عرفات إلى عقد مؤتمر عاجل لحركة فتح في دمشق في 12 يونيو (حزيران) لمناقشة (جدوى وملاءمة استئناف الكفاح المسلح الآن). وحدثت خلافات حادة بين قيادات فتح ما بين مؤيد ومعارض. وانتهى الاجتماع بعدة قرارات كان أهمها الموافقة على أن يتسلل ياسر عرفات وعدد من (الكوادر) خلسة إلى الضفة الغربية التي احتلت حديثاً وكذلك قطاع غزة لتعديل وتوسيع جهاز حركة فتح السري داخل الأرض المحتلة بهدف استئناف الأعمال الفدائية، على أن يكون المناضلون الذين يتم اختيارهم لهذه المهام الدقيقة من أبناء الأراضي المحتلة بحيث يمكنهم التنقل بسهولة من دون إثارة أي شكوك حولهم. واتخذت كافة التدابير لاقامة قواعد فدائية على طول خطوط وقف اطلاق النار بطول نهر الأردن وفي جنوب لبنان. ومن القرارات الهامة لهذا المؤتمر أيضا التوسع في مبدأ التفرغ للعمل السياسي. فتم تعيين عدد من القيادات العليا في مهمة تنظيم الحركة في المرحلة الجديدة، كان منهم أبو أياد والتجار وعبد الفتاح حمود. ايضا تم الاتفاق على توجيه نداء لجميع المناضلين لجمع السلاح الذي تركته الجيوش العربية في ساحات القتال وارسال وفود من قيادات فتح إلى أربعة بلدان عربية بهدف اجراء مشاورات حول استئناف الأعمال الفدائية وكانت هذه البلاد هي مصر وسورية والعراق والجزائر.
وعندما وصل فاروق قدومي وصلاح خلف للقاهرة استقبلهما محمود رياض وزير الخارجية المصري آنذاك ورئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل، ولم يتمكنا من مقابلة عبد الناصر. وأيد هيكل استئناف الأعمال الفدائية ولكنه أبدى بعض التحفظات ازاء حركة فتح بشكل عام قائلاً «نحن لا نعرف عنكم إلا القليل. والملف الذي فتحته مخابراتنا حول العاصفة مازال فارغاً. والقناع الذي تتقنعون به يحيرنا. ولكن على أي حال فإن قدرتكم على التكتم والتخفي حتى الآن هي مؤشر على جديتكم».
أما الملك فيصل العاهل السعودي الذي نجح أبو جهاد في مقابلته في جنيف. فقد أظهر تعاطفه وتأييده لفتح. وصرح لخليل الوزير بأنه على علم بوجود «فتح» منذ سنوات عبر زكي اليماني (وزير النفط السعودي آنذاك) وطمأن أبو جهادً العاهل السعودي بأن فتح لا ترتبط بأي حزب. وأن مبدأها هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية. أما الملك فيصل فقد أكد على أنه ما زال يؤيد وجهة نظر والده الملك عبد العزيز الذي كان يعتبر أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم إلا على أيدي أبنائها. وأيد حصول الفلسطينيين على دعم مالي وغير مالي لمواصلة كفاحهم. وعارض الرئيس السوري نور الدين الأتاسي القيام بأي أعمال فدائية بشدة، وحذر قادة فتح قائلاً: «انكم ستخسرون وستجروننا جميعاً معكم إلى كارثة».
ظل أبو عمار داخل الأراضي المحتلة متخفياً وأرسل خلال اقامته عدة تقارير لقيادة فتح، أكد فيها أنه لاحظ أن الهزيمة العربية لم تنل من عزيمة أهالي الضفة الغربية وغزة. وأنهم يؤيدون متابعة النضال بكافة الوسائل. وقال عرفات في تقريره أنه يستقبل بأذرع مفتوحة ويلقى الحماية والاقامة المناسبة ولم يجد أي صعوبة هو ورفاقه في التنقل من مكان إلى مكان. بل أنه استطاع أن يدخل إلى مسقط رأسه في القدس وكذلك تل أبيب. ولم يخرج أبو عمار من الأراضي المحتلة إلا عندما تلقى طلباً من رفاقه بضرورة العودة للمشاركة في اجتماع طارئ لفتح في 20 أغسطس (آب). وأعيد فتح موضوع الكفاح المسلح والعمل الفدائي وكان هناك اتجاهان متعارضان. وانتهى الاجتماع بقرار جماعي بالموافقة على استئناف العمل الفدائي وانطلق فدائيو فتح في 31 أغسطس (اب) 1967 لمهاجمة القلعة الصهيونية الحصينة. واتخذت العمليات أشكالاً مختلفة ومتعددة. ورد الاسرائيليون بعنف وقمع شديد وقاموا بموجات من الاعتقالات. ويعترف أبو عمار «ان تهور مقاتلينا وحماسهم الشديد كان يقودهم لتحدي السلطات الاسرائيلية بصورة مكشوفة عرضتهم لمخاطرات لا مبرر لها. وكان هناك اختراقات وعملاء وجواسيس يعملون لحساب اسرائيل». ولهذا قرر ياسر عرفات مع قيادات فتح أن تتم اقامة (دائرة لمكافحة الجاسوسية) وتولى قيادتها فاروق قدومي. قبل أن تسند وبشكل نهائي إلى صلاح خلف (أبو أياد) الذي تولى مهام ومسؤولية أمن فتح ثم المنظمة ثم جهاز الاستخبارات الفلسطيني. وقام أبو أياد بانتقاء عدد كبير من الكوادر الهامة تم اختيارهم بدقة، وتلقوا تدريباً واعداداً سريعاً في مصر قبل أن ينتشروا في الأراضي المحتلة والبلدان العربية المجاورة.
* من معركة الكرامة.. إلى أيلول الأسود
* ظلت فتح تواجه العدو بأسلحتها البسيطة خلال الأشهر الأولى التالية لحرب 1967. أما (جبهة الرفض) من الفصائل الفلسطينية الأخرى فلم تقدم أي شيء. وكان وضع أبو عمار وقيادات فتح يزداد رسوخاً وثقة. وازداد الدعم السوري والجزائري لفتح. أما في الأردن فإن هزيمة 1967 فتحت لأبي عمار والمقاومة آفاقاً جديدة لنمو وتطور التواجد الفلسطيني. ونجح أبو عمار في اقامة علاقات ودية مع النظام الأردني اكتسب خلالها تعاطف وتأييد الملك حسين فقام بالافراج عن مئات الفلسطينيين المعتقلين في سجون الأردن. وتغاضى الملك حسين عن عمد عن القواعد التي أقامتها فتح على امتداد نهر الأردن لتكون نقاط معاونة واسناد للفدائيين. وخلال هذا الجو الودي العام تنامت المؤازرة للمقاومة الفلسطينية من المواطنين الأردنيين من دون تدخل من القوات الأردنية التي أقام رجال المقاومة معهم علاقات ممتازة. وكان الضباط الأردنيون يقدمون تسهيلات عديدة. أما وحدات الجيش العراقي التي كانت مرابطة بالغرب من خطوط وقف اطلاق النار فقد كانت تقدم بعض الخدمات الصغيرة. ويحكي أبو عمار عن تلك الفترة الذهبية في حياة المقاومة، أن أحد الضباط العراقيين منح أبو عمار وعدداً من رفاقه من قيادات فتح الكبار أوراق هوية مزورة تتيح لهم التجول بحرية في المناطق المحظورة عليهم كفلسطينيين. وازداد شعور أبو عمار بالراحة عندما نجح في اقامة قواعد فدائية قرب مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يوفرون حماية لنشاط حركة فتح. ولأن القوات الأردنية والملك حسين قرروا أن يغمضوا أعينهم عن عمد عما يحدث فقد أقام أبو عمار مقراً لقيادة العمليات في احدى القواعد الغربية من تجمع الكرامة. وكانت تبعد عن نهر الأردن حوالي 4 كيلومترات وتقع بين النزال.
وبلغ التعاون والتنسيق بين الأردنيين ورجال فتح ذروته في 18 مارس ( آذار)، عندما أخبر رئيس أركان الجيش الأردني عامر خماش أبو عمار بأن اسرائيل تستعد لشن هجوم واسع النطاق على قواعد المقاومة بطول نهر الأردن. وأكد له أن الهجمة الاسرائيلية ستتم خلال ثلاثة أيام من الآن. وقال عامر خماش لأبوعمار ناصحاً ومحذراً «إن الحكمة تقضي بأن يتلافى الفدائيون أية مواجهة مع العدو الذي سيعبر نهر الأردن بقوات كبيرة. وعلى الفدائيين أن ينسحبوا إلى داخل الأراضي الأردنية. وأن قيادة فتح سترتكب خطأ جسيماً إذا ما عرضت نفسها لضربات العدو. وعلى فتح أن تحافظ على قدراتها البشرية المدربة وتبتعد بها داخل الأردن».
الإثنين يناير 12, 2009 11:00 am
